القائمة الرئيسية

الصفحات

[المحامي]المحاماة رسالة و صناعة

المحامي المظلوم

قانون-نرى مع الأسف البالغ أن الناس في علاقتهم مع المحامي ، إذا ربحوا الدعوى كان ذلك لأن الحق يعلو و لا يعلى عليه ، و إذا خسروها كان ذلك لجهل المحامي و تقصير ، إن لم يكن لارتكابه و خيانته .

و قد يهون الخطب لو أن هذا الجحود كان مقتصراً على العوام و صغار العقول ، و لكننا نجد أمثله له حتى بين طائفة رجال الطليعة و صفوف أصحاب الفكر .

و تحضرني هنا ذكرى الشاعر بودلير عندما أحيل أمام محكمة الجزاء لدى صدور كتابه ( أزهار الشر ) بتهمة التعرض للأخلاق و الآداب العامة ، و قضي عليه بنتيجة المحاكمة ، فكان لومه على المحامي ، و لوم أصدقائه من الشعراء و الأدباء أشد من لومهم على القضاة ، و كتب أحد الأصدقاء ( اسيلينو ) :

( لقد حكم على بودلير لأنه لم يدافع عنه ، و أن محاميه بالرغم من ذكائه المعروف و كفاءته الاعتيادية ، لم يجد في هذه القضية أسهل عليه من أن يضيع في مضبطة الاتهام بدلاً من أن يجهز عليها ) .

و كتب آخر ( دورويفيلي ) :

( لست أدري أي صغائر لا صوت لها و لا حياة لها راح يدافع بها هذا المحامي ) .

و كان مسك الختام قول بودلير نفسه :

( لو أنني تولت الدفاع عن قضيتي بنفسي لقضت المحكمة ببراءتي ) .

فإن سألتم عن ذلك المحامي المنكور الحظ ، لتحقق لكم مبلغ ما في هذه الأقوال من الخفة و التجني ، لأن الذي دافع عن بودلير في تلك القضية المشهورة لم يكن غير ( تشي ديستانغ – chaiix D Estange ) نفسه ، فخر جيله و سيد بلغاء عصره ، و هو يومئذ في قمة الشهرة و المجد ، و ألطف ما في الأمر أن المسكين كان متطوعاً غير مأجور .

" تشي ديستانغ " السيد المرقم و الخطيب الأعظم ، هذا الذي تنحني الرؤوس إجلالاً عند ذكر أسمه ، هذا الذي كان للسانه تأثير الخمر أو فعل السحر ، نقرأ عن حوادثه فنحسب أنها من صنع الأسطورة و الخيال .

الذي استطاع في إحدى مرافعاته عن جهة الادعاء الشخصي في قضية ( بنوا ) التاريخية ، و هي الجريمة التي اقترفها الجاني على والدته ، و بقي متمسكاً بالإنكار المطلق بالرغم من جميع محاولات التحقيق و استمراره أشهراً طويلة متواصلة ، و شجعه على هذا الإنكار أن الدليل كان ضعيفاً أو شبه معدوم ..

فوقف " تشي ديستانغ " و راح يتفنن و يحلق في شتى فنون التصوير و أساليب التأثير ، و هدفه الأول هذا المتهم نفسه الذي يحتفظ بالسر الرهيب ، إلى أن استطاع أن يسيطر عليه سيطرة كاملة ، و أن ينتقل به إلى ساعة الجريمة و ساحتها ، فيجعله يحياها ثانية ثانية ، كأنه يقوم بارتكابها من جديد ، فما طال الأمر بالمتهم حتى انهد كيانه و انهارت أركانه ، فألقى رأسه طريحاً بين كفيه ، و راح يجهش بالبكاء و يستغيث :

( أماه .. عفوك و رحمتك )

و صدرت عن القاعة المكتظة زفرة واسعة عمومية كأن جبلاً من الهم و الضيق قد حط عن كواهل القوم ، فكان ذلك أجمل تحية للعبقرية ، و أصدق و أروع تعبير عن الشكر و الإعجاب و التقدير .

هذا هو " تشي ديستانغ " لذي انبرى للدفاع عن بودلير لا طمعاً بمال و لا سعياً وراء الشهرة ، لأن بودلير لم يكن يومئذ غير شاعر رجيم مطارد و منبوذ ، و هو لم يعبر إلى الخلود إلى من باب القبر ، و إنما اندفع معه تشي ديستانغ انتصاراً لحرية الفكر و انطلاق الفن ، فكان ما جناه مؤاخذة و لوماً .
...........................................
المحامي هاني البيطار , من محاضرة  ألقاها على مدرج الجامعة السورية في 22 شباط 1955 - و هي منشورة في المحامون - العدد2 لعام 1955 – ص11
مقالات مميزة:

[المحامي]المحاماة رسالة و صناعة
[المحامي]المحاماة رسالة و صناعة 


هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع